سورة المعارج - تفسير تفسير الثعلبي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (المعارج)


        


{سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (1) لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ (2) مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ (3) تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4) فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا (5) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6) وَنَرَاهُ قَرِيبًا (7) يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ (8) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ (9) وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا (10)}
{سَأَلَ سَآئِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ} قرأ أهل المدينة والشام سأل بغير همز، وقرأ الباقون بالهمز واختاره أبو عبيد وأبو حاتم، فمن قرأه بالهمز فهو من السؤال لا غير وله وجهان: أحدهما أن تكون الباء في قوله: {بِعَذَابٍ} بمعنى عن كقوله سبحانه: {فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً} [الفرقان: 59] أي عنه، وقال علقمة بن عبدة:
فإن تسألوني بالنساء فانّي *** بصير بأدواء النساء طبيب
أي عن النساء.
ومعنى الآية: سأل سائل عن عذاب واقع نازل: على من ينزل؟ ولمن هو؟ فقال الله سبحانه مجيباً له: {لِّلْكَافِرِينَ} وهذا قول الحسن وقتادة قالا: كان هذا بمكّة، لما بعث الله تعالى محمداً صلى الله عليه وسلم إليهم وخوّفهم بالعذاب والنكال، قال المشركون بعضهم لبعض: من أهل هذا العذاب اسألوا محمداً لمن هو وعلى مَنْ ينزل وبمَنْ يقع، فبيّن الله سبحانه وأنزل سأل سائل عذاباً واقعاً للكافرين أي على الكافرين، اللام بمعنى على، وهو النضر بن الحرث حيث دعا على نفسه وسأل العذاب فقال: اللّهمّ إن كان هذا هو الحقّ لأنّه نزل به ما سأل يوم بدر، فقتل صبراً ولم يقتل من الأسرى يومئذ غيره وغير عقبه بن أبي معيط، وهذا قول ابن عباس ومجاهد، وسئل سفيان بن عيينة عن قول الله سبحانه: {سَأَلَ سَآئِلٌ} فيمن نزلت، فقال: لقد سألتني عن مسألة ما سألني أحد قبلك.
حدّثني أبي عن جعفر بن محمد عن آبائه، فقال: لما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بغدير خم، نادى بالناس فاجتمعوا، فأخذ بيد عليّ رضي الله عنه فقال: «مَنْ كنتُ مولاه فعليٌّ مولاه».
فشاع ذلك وطار في البلاد، فبلغ ذلك الحرث بن النعمان القهري فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ناقة له حتّى أتى الأبطح، فنزل عن ناقته وأناخها وعقلها، ثمّ أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو في ملأ من أصحابه فقال: يا محمد أمرتنا عن الله أن نشهد أن لا إله إلاّ الله وأنّك رسول الله فقبلناه منك، وأمرتنا أن نصلّي خمساً فقبلناه منك، وأمرتنا بالزكاة فقبلنا، وأمرتنا بالحجّ فقبلنا، وأمرتنا أن نصوم شهراً فقبلنا، ثمّ لم ترض بهذا حتّى رفعت بضبعي ابن عمّك ففضلته علينا وقلت: من كنت مولاه فعلي مولاه، فهذا شيء منك أم من الله تعالى؟
فقال: «والّذي لا إله إلاّ هو هذا من الله» فولّى الحرث بن النعمان يريد راحلته وهو يقول: اللهمّ إن كان ما يقوله حقاً فأمطر علينا حجارة من السماء، أو ائتنا بعذاب أليم، فما وصل إليها حتّى رماه الله بحجر فسقط على هامته وخرج من دبره فقتله، وأنزل الله سبحانه: {سَأَلَ سَآئِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ * لِّلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ}.
ومَنْ قرأ بغير همز فله وجهان: أحدهما أنّه لغة في السؤال، تقول العرب: سأل سائل وسأل سال مثل نال ينال، وخاف يخاف، والثاني: أن يكون من السيل، قال زيد بن ثابت وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، سال واد من أودية جهنم يقال له سائل.
{مِّنَ الله ذِي المعارج}. قال ابن عباس: يعني ذي السماوات، وقال ابن كيسان: المعارج الفتق الذي بين سمائين وأرضين، قتادة: ذي الفواصل والنعم، سعد بن جبير: ذي الدرجات، القرطبي: ذي الفضائل العالية، مجاهد: معارج الملائكة.
{تَعْرُجُ} بالياء الكسائي وهي قراءة ابن مسعود واختيار أبي عبيد، وغيرهم بالتاء {الملائكة والروح} هو جبريل {إِلَيْهِ} إلى الله عزّوجلّ {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} من سنين الدنيا، لو صعد غير الملائكة وذلك أنّها تصعد من منتهى أمر الله من أسفل الأرض السابعة إلى منتهى أمره من فوق السماء السابعة.
وروى ليث عن مجاهد {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} قال: من منتهى أمره من أسفل الأرضين إلى منتهى أمره من فوق السموات مقدار خمسين ألف سنة و{يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} يعني بذلك نزول الأمر من السماء إلى الأرض ومن الأرض إلى السماء في يوم واحد فذلك مقدار ألف سنة؛ لأنّ ما بين السماء إلى الأرض مسيرة خمسمائة عام.
وقال محمد بن إسحاق بن يسار: لو سار بنو آدم من الدنيا إلى موضع العرش ساروا خمسين ألف سنة قبل أن يقطعوه.
وقال الحكم بن عكرمة: هو مدة عمر الدنيا من أولها إلى آخرها، خمسون ألف سنة لا يدري أحد كم مضى وكم بقي إلاّ الله. وقال قتادة: هو يوم القيامة.
وقال الحسن: هو يوم القيامة وليس يعني أن مقدار طوله هو دون عمره، ولو كان ذلك لكانت له غاية نعني فيها الجنة والنار، ولكنّه يوم موقفهم للحساب، حتّى يفصل بين الناس خمسون ألف سنة من سني الدنيا، وذلك أنّ ليوم القيامة أولا وليس له آخر. لأنّه يوم ممدود ولو كان له آخر كان منقطعاً.
وقيل: معناه لو ولى محاسبة العباد في ذلك غير الله لم يفرغ منه في خمسين ألف سنة، وهي رواية محمد بن الفضيل عن الكلبي قال: يقول: لقد لو وليت حساب ذلك اليوم الملائكة والجن والإنس وطالت محاسبتهم لم يفرغوا منه في خمسين ألف سنة، وأنا أفرغ منه في ساعة من النهار.
وقال يمان: هو يوم القيامة فيه خمسون موطناً، كل موطن ألف سنة، وفيه تقديم وتأخير، كأنه قال: ليس له دافع من الله في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة يعرج الملائكة والروح إليه.
وروى أبو الجوزاء وابن أبي طلحة عن ابن عباس قال: هو يوم القيامة جعله الله على الكافرين مقدار خمسين ألف سنة فأراد أن أهل الموقف يستطيلون ذلك اليوم.
وأخبرنا ابن فنجويه، قال: حدّثنا القطيعي، قال: حدّثنا عبد الله قال: حدّثنا أبي قال: حدّثنا حسن قال: حدّثنا ابن لهيعة قال: حدّثنا دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري قال: قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ما أطول هذا اليوم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده إنّه ليخفف على المؤمنين حتّى يكون أخف عليهم من صلاة مكتوبة تصليها في الدنيا».
وقال إبراهيم التيمي: ما قدر ذلك اليوم على المؤمن إلاّ كما بين الظهر والعصر.
{فاصبر صَبْراً جَمِيلاً * إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ} يعني العذاب {بَعِيداً * وَنَرَاهُ قَرِيباً}؛ لأنّ ما هو آت قريب {يَوْمَ تَكُونُ السمآء كالمهل} كعكر الزيت، وقيل: كالفلز المذاب وقد مرّ تفسيره. {وَتَكُونُ الجبال كالعهن} كالصوف المصبوغ، ولا يقال عهن إلاّ للمصبوغ. وقال مقاتل: كالصوف المنفوش. قال الحسن: كالصوف الأحمر وهو أضعف الصوف، وأوّل ما تتغير الجبال تصير رملاً مهيلاً، ثمّ عهناً منفوشاً، ثمّ تصير هباءً منثوراً.
{وَلاَ يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً} قريب قريباً لشغله بشأن نفسه، وقرأ: ولا يُسئل بضم الياء، أي لا يسأل حميم عن حميم.


{يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ (14) كَلَّا إِنَّهَا لَظَى (15) نَزَّاعَةً لِلشَّوَى (16) تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (17) وَجَمَعَ فَأَوْعَى (18) إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21) إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ (23) وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (29) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (31) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (32) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ (33) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (34) أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (35)}
{يُبَصَّرُونَهُمْ} يرونهم وليس في القيامة مخلوق إلاّ وهو نصب عن صاحبه من الجن والإنس فيبصر الرجل أباه وأخاه وقرابته وعشيرته ولا يسأله، ويبصر الرجل حميمه فلا يكلمه لاشتغالهم بأنفسهم.
قال ابن عباس: يتعارفون مدة ساعة من النهار ثمّ لا يتعارفون بعد ذلك، وقال السدي: يبصرونهم يعرفونهم، أمّا المؤمن فلبياض وجهه، وأما الكافر فلسواد وجهه.
{يَوَدُّ المجرم} يتمنّى المشرك {لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ} زوجته {وَأَخِيهِ * وَفَصِيلَتِهِ} عشيرته التي فصل منهم، أبو عبيدة: فخذه، ثعلب: آبائه الأدنين. غيره: أقربائه الأقربين {التي تُؤْوِيهِ} مجاهد قبيلته {وَمَن فِي الأرض جَمِيعاً ثُمَّ يُنجِيهِ} ذلك الفداء من عذاب الله سبحانه {كَلاَّ} ليس كذلك لا يُنجيه من عذاب الله شيء.
ثمّ ابتدأ فقال: {إِنَّهَا لظى} وقيل: معناه حقّا إنّها لظى، فيكون متّصلا ولظى اسم من أسماء جهنّم، ولذلك لم يجر، وقيل: هي الدركة الثانية سمّيت بذلك لأنّها تتلظى، قال الله تعالى: {فَأَنذَرْتُكُمْ نَاراً تلظى} [الليل: 14].
{نَزَّاعَةً} قراءة العامة بالرفع على نعت اللظى، وروى حفص عن عاصم بالنصب على الحال والقطع {للشوى} قال الكلبي: لأمر الرأس بأكل الدماغ، ثمّ يعود الدماغ كما كان، ثمّ يعود لأكله فذلك دائها، وهي رواية أبي ظبيان عن ابن عباس، عطيّة عنه: يعني الجلود والهام، سعيد بن جبير عنه: للعصب والعقب، مجاهد: لجلود الرأس، ودليل هذا التأويل قول كثير عزّة:
لأصبحت هدتك الحوادث هذه *** لها فشواة الرأس باد قتيرها
إبراهيم بن مهاجر: اللحم دون العظم، الهام يحرق كل شيء منه ويبقى فؤاده نصيحاً، أبو صالح: للحم الساق، ثابت البناني: لمكارم وجهه، قتادة: لمكارم خلقه وأطرافه، أبو العالية: لمحاسن وجهه، يمان: خلاّعة للأطراف، مرة: للأعضاء، ابن زيد: لأذاب العظام، الضحّاك: تبري اللحم والجلد عن العظم حتّى لا تترك منه شيئاً، الكسائي: للمفاصل، ابن جرير: الشوى جمع شواة وهي من جوارح الإنسان ما لم يكن مقتلا يقال: رمى فاشوى إذا لم يصب مقتلا، وقال بعض الأئمة: هي القوائم والجلود، قال امرؤ القيس:
سليم الشظى عبل الشوى شنج النسا ***
وقال الأعشى:
قالت قتيلة ماله قد جلّلت شيباً شواته... {تَدْعُواْ} إلى نفسها {مَنْ أَدْبَرَ} عن الإيمان {وتولى} عن الحق فتقول إليّ إليّ.
قال ابن عباس: تدعوا الكافرين والمنافقين بأسمائهم بلسان فصيح، ثمّ تلتقطهم كما تلتقط الطير الحب، وقال تغلب: تدعوا أي تهلك يقول العرف: دعاك الله أي أهلكك الله، وقال الخليل: إنه ليس كالدعاء تعالوا ولكن دعوتها إياهم تمكّنها من تعذيبهم وفعلها بهم ما تفعل.
{وَجَمَعَ} المال {فأوعى} أمسك ولم يود حقّ الله منه.
أخبرني وقيل: إنّ أبا الفرج أخبرهم عن ابن جرير قال: حدّثنا محمد بن منصور قال: حدّثنا أبو فطن قال: حدّثنا المسعودي عن الحكم قال: كان عبد الله بن حكيم لا يربط كيسه ويقول: سمعت الله سبحانه وتعالى يقول: {وَجَمَعَ فأوعى}.
{إِنَّ الإنسان خُلِقَ هَلُوعاً}.
أخبرنا عبد الخالق قال: حدّثنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن يزداد الرازي، قال: حدّثنا أبو الحسن طاهر الخثعمي، قال: حدّثنا إسماعيل بن موسى، قال: أخبرنا الحكم بن ظهير عن السدي عن أبي صالح عن ابن عباس في قوله: {هَلُوعاً} قال: الحريص على ما لا يحلّ له.
وروى عطية عنه قال: هو الذي قال الله سبحانه وتعالى: {إِذَا مَسَّهُ الشر جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الخير مَنُوعاً} وقال سعيد بن جبير: شحيحاً، عكرمة: ضجوراً، الضحاك والحسن: بخيلا، حصين: حريصاً، قتادة وابن زيد: حزوناً، مجاهد: شرهاً، وعن الضحاك أيضاً: الهلوع الذي لا يشبع، مقاتل: ضيق القلب، ابن كيسان: خلق الله الإنسان يحب ما يُسره ويرضيه ويهرب مما يكرهه ويسخطه ثمّ تعبّده بإنفاق ما يحب ويلذ والصبر على ما يكره، عطا: عجولا وقيل: جهولا، سهل: متقلّباً في شهواته وهواه، وسمعت أبا عبد الرحمن السلمي يقول: سمعت منصور بن عبد الله يقول: سمعت أبا القيّم البزاز يقول: قال ابن عطاء: الهلوع: الذي يرضى عند الموجود ويسخط عند المفقود، أبو الحسن الوراق: نسّاء عند النعمة دعّاء عند المحنة، وعن سهل أيضاً: إذا افتقر جزع وإذا أيسر منع، أبو عبيدة وثعلب: هو الذي إذا مسّه الخير لم يشكر وإذا مسّه الشرّ لم يصبر، وقيل: طموعاً يرضيه القليل من الدنيا ويسخطه مثلها، والهلع في اللغة: أشد الحرص وأسوأ الجزع.
قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «شرّ ما أعطى العبد شح هالع وجبن خالع».
وتقول العرب: ناقة هلواع إذا كانت سريعة السير خفيفة. قال الشاعر:
صكاء علبة إذا استديرتها *** حرج إذا استقبلتها هلواع
ثمّ استثنى سبحانه وتعالى {إِلاَّ المصلين} قيل: هم الصحابة خاصّة وهم المؤمنون عامّة فإنّهم يغلبون فرط الهلع بحكم الشرع لثقتهم بربّهم ويقينهم بقدرته، واستثنى الجمع من الواحد. لأنّ الإنسان اسم الجنس فهو في معنى الجمع.
{الذين هُمْ على صَلاَتِهِمْ دَآئِمُونَ}.
أخبرنا ابن فنجويه قال: حدّثنا القطيعي قال: حدّثنا بشر بن موسى قال: حدّثنا أبو عبد الرحمن المقري عن حيوة قال: حدثني يزيد بن أبي حسب عن أبي الخير مرثد بن عبد الله اليزني: أن عقبة بن عامر قال لهم: الذين هم على صلواتهم دائمون.
قال: قلنا: الذين لا يزالون يصلون؟ فقال: لا ولكن الذين إذا صلوا لم يلتفتوا يميناً ولا شمالا {والذين في أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ * لِّلسَّآئِلِ والمحروم * والذين يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدين * والذين هُم مِّنْ عَذَابِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ * إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ * والذين هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلاَّ على أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابتغى وَرَآءَ ذَلِكَ فأولئك هُمُ العادون * والذين هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِم قَائِمُونَ} يعني يقيمونها ولا يكتمونها ولا يغيرونها.
وقال سهل: قائمون بحفظ ما شهدوا به من شهادة لا إله إلاّ الله، فلا يشركون به في شيء من الأفعال والأقوال والأحوال. وقرأ ابن عامر ويعقوب وحفص بشهاداتهم بالألف على الجمع، الباقون بشهادتهم.
{وَالَّذِينَ هُمْ على صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أولئك فِي جَنَّاتٍ مُّكْرَمُونَ}.


{فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (36) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ (37) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (38) كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (39) فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ (40) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (41) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (42) يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (44)}
{فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُواْ} فما بالهم كقوله سبحانه: {فَمَا لَكُمْ فِي المنافقين فِئَتَيْنِ} [النساء: 88] وقوله سبحانه: {فَمَا لَهُمْ عَنِ التذكرة مُعْرِضِينَ} [المدثر: 49].
{قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ} مقبلين مسرعين عليك مادّي أعناقهم مديمي النظر إليك متطلّعين نحوك. وقد مرّ تفسير الإهطاع وهو نصب على الحال {عَنِ اليمين وَعَنِ الشمال عِزِينَ} حلقاً وفرقاً عصبة عصبة وجماعة جماعة متفرقين، والعزين: جماعات في تفرقة، واحدتها عزة ونظيرها في الكلام ثبته وثبتين وكره وكرين وقله وقلين، قال عنترة:
وقرن قد تركت لذي ولي *** عليه الطير كالعضب العزين
وقال الراعي:
أخليفة الرحمن إنّ عشيرتي *** أمسى سوائمهم عزين فلولا
وقال آخر:
كأن الجماجم من وقعها *** خناطيل يهون شتى عزينا
وأخبرني عقيل أن المعافى أخبرهم عن ابن جرير، قال: حدّثنا بكار قال: حدّثنا مؤمل قال: حدّثنا سفيان عن عبد الملك بن عمير عن أبي سلمة عن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج على أصحابه وهم حلق حلق فقال: «ما لي أراكم عزين».
قال المفسّرون: كان المشركون يجتمعون حول النبيّ صلى الله عليه وسلم ويتسمعون كلامه ولا ينتفعون به، بل يكذبونه ويكذبون عليه ويستهزؤون به وبأصحابه، ويقولون: دخل هؤلاء الجنّة كما يقول محمد، فلندخلها قبلهم وليكونن لنا فيها أكثر مما لهم فأنزل الله سبحانه: {أَيَطْمَعُ كُلُّ امرئ مِّنْهُمْ أَن يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ} قرأ الحسن وطلحة بفتح الياء وضم الخاء، ومثله روى المفضل عن عاصم، الباقون ضده {كَلاَّ} لايدخلونها ثمّ ابتدأ فقال: {إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّمَّا يَعْلَمُونَ} أي من نطفة ثمّ علقة ثمّ مضغة فلا يستوجب الجنّة أحد منهم بكونه شريفاً؛ لأنّ مادة الخلق واحدة بل يستوجبونها بالطاعة، قال قتادة في هذه: إنّما خلقت يابن آدم من قذر فاتق إلى الله.
أخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا محمد بن عبد الله بن برزة قال: حدّثنا محمد بن سليمان ابن الحرث الباغندي قال: حدّثنا عارم أبو النعمين السدوسي، قال: حدّثنا حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس بن مالك، قال: كان أبو بكر الصديق إذا خطبنا ذكر مناتن ابن آدم فذكر بدء خلقه أنّه يخرج من مخرج البول مرتين، ثمّ يقع في الرحم نطفة، ثمّ علقة، ثمّ مضغة، ثمّ يخرج من بطن أمه فيتلوث في بوله وخراه حتّى يقذر أحدنا نفسه.
وأخبرني ابن فنجويه، قال: حدّثنا موسى بن محمد بن عليّ، قال: حدّثنا جعفر بن محمد الفريابي، قال: حدّثنا صفوان بن صالح قال: حدّثنا الوليد بن مسلم قال: حدّثنا جرير بن عثمان عن عبد الرحمن بن ميسرة عن جبير بن نفير عن بسر بن جحاش قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وبصق يوماً في كفه ووضع عليها أصبعه فقال: «يقول عزّوجلّ بني آدم أنى تعجزني وقد خلقتك من مثل هذه، حتّى إذا سوّيتك وعدّلتك مشيت بين بردين وللأرض منك وئيد، فجمعت ومنعت حتّى إذا بلغت التراقي قلت: أتصدّق وأنى أوان الصدقة».
وقيل: إنّا خلقناهم من أجل ما يعلمون وهو الأمر والنهي والثواب والعقاب فحذف أجل، كقول الشاعر:
أأزمعت من آل ليلى احتكاراً *** وشطّت على ذي هوى أن تزارا
أي من أجل آل ليلى.
وقيل: {مَآ} بمعنى من، مجازه: إنا خلقناهم ممن يعلمون ويعقلون لا كلبهائم. {فَلاَ أُقْسِمُ بِرَبِّ المشارق والمغارب} قرأ أبو حيوة برب المشرق والمغرب {إِنَّا لَقَادِرُونَ * على أَن نُّبَدِّلَ خَيْراً مِّنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ} نظيره في سورة الواقعة.
{فَذَرْهُمْ يَخُوضُواْ} في باطلهم {وَيَلْعَبُواْ} ويلهوا في دنياهم {حتى يُلاَقُواْ يَوْمَهُمُ الذي يُوعَدُونَ} نسختها آية القتال {يَوْمَ يَخْرُجُونَ} قراءة العامّة بفتح الياء وضم الراء، وروى الأعشى عن أبي بكر عن عاصم بضم الياء وفتح الراء {مِنَ الأجداث} القبور {سِرَاعاً} إلى إجابة الداعي {كَأَنَّهُمْ إلى نُصُبٍ} قراءة العامّة بفتح النون وجزم الصاد يعنون إلى شيء منصوب، يقال: فلان نصب عيني.
قال ابن عباس: يعني إلى غاية وذلك حين سمعوا الصيحة الأخيرة. الكلبي: إلى علم وزواية، وقال أبو العلاء: سمعت بعض العرب يقول: النصب الشبكة التي يقع فيها الصيد فيتسارع إليها صاحبها مخافة أن يفلت الصيد منها، وقرأ زيد بن ثابت وأبو رجاء وأبو العالية ومسلم البطين والحسن وأشهب العقيلي وابن عامر {إلى نُصُبٍ} بضم النون والصاد، وهي رواية حفص عن عاصم واختيار أبي حاتم.
قال مقاتل والكسائي: يعني إلى أوثانهم التي كانوا يعبدونها من دون الله. وقال الفراء والأخفش: النُصُب جمع النُصْب مثل رُهُن، والأنصاب جمع النُصُب فهي جمع الجمع. وقيل: النُصُب والأنصاب واحد.
{يُوفِضُونَ} يسرعون. قال الشاعر:
فوارس ذبيان تحت الحديد *** كالجن يوفضن من عبقر
وقال ابن عباس وقتادة: يسعون، وقال أبو العالية ومجاهد: يستبقون، ضحاك: يطلعون. الحسن يبتدرون. القرظي يشتدون {خَاشِعَةً} ذليلة خاضعة {أَبْصَارُهُمْ} بالعذاب، قال قتادة: سواد الوجوه {تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ} يغشاهم هوان، ومنه غلام مراهق إذا غشى الإحتلام {ذَلِكَ اليوم الذي كَانُواْ يُوعَدُونَ} وهو يوم القيامة.